البذرة الأولى

الاثنين، 4 أغسطس 2008

الإنسان العادي (1)

* الدكتور/ مصطفى محمود. من كتاب (يوميات نصف الليل)

كل واحد منا له شخصية مفردة يتميز بها مثل بصمة أصبعه لا يشاركه فيها أحد.
لا يوجد إنسان عادي. لا يوجد نموذج مثل (الباترون) الذي يقص عليه القماش ليفصل منه آلاف الموديلات المتشابة.
وإنما كل واحد موديل مبتكر في ذاته، نمط فريد، نسيج وحده ليس له شبيه، وليس له ثان. كل واحد ملامحه تجعل منه فلان الفلاني بالذات الذي ينفرد ويتميز بأشياء لا توجد في أحد غيره.
ليس صحيحا أن الله يخلق من الشبه أربعين، وإنما هناك دائما فروق طفيفة في اللون، في البشرة، في النظرة، في اللفة، في الشخصية، في التفكير تجعل تشابه اثنين وتطابقهما مستحيلا، تجعل كلا منهما قالبا معينا.
لا يوجد شيء يمكن أن نسميه قالبا عاديا للشخصية الإنسانية، فالشخصية الإنسانية دائما مبتكرة، دائما جديدة، دائما خاصة بصاحبها، غير قابلة للتعميم.
وما نسميه بـ(الإنسان العادي) هو في الحقيقة نموذج في الذهن، صورة في الخيال مجردة من الصفات التي تستوقف نظرنا. فالوجه العادي مثلا هو وجه مش مطاول، ومش مدور، ومش مربع ، ومش مسحوب، ومش مبطط، لكن هو إيه؟! شكله إيه؟! لن تستطيع أن تشبهه بأي وجه تعرفه؛ لأن كل الوجوه في الواقع غير عادية. كل وجه فيه شيء يجعل منه وجها مميزا.
وبالمثل شخصياتنا، كل شخصية فيها امتياز، فيها جانب تفوق، فيها استعداد لشيء، فيها بذرة عبقرية، ولكن هذه البذرة لا يفطن لها صاحبها ولا يكتشفها ولا يدركها فتضيع عليه، ويخيل إليه إنه إنسان عادي.
ونحن في العادة نموت قبل أن نكتشف مواهبنا، وقبل أن نتعرف على مميزاتنا، ونموت بحسرة أننا أناس عاديون.
إن أم كلثوم كان من الممكن ألا نكتشف صوتها، وكان من الممكن أن تضيع كأي فتاة قروية تسرح في الحقل وتقضي حياتها تربي الدجاج وتطعم البط لولا أن اكتشفها الملحنون واحتضنوا صوتها.
وكمال الطويل ضاع نصف حياته في محاولة الغناء قبل أن يكتشف إنه ملحن.
وعبد الحليم حافظ ضاع نصف حياته في محاولة التلحين قبل أن يكتشف أنه مغن.
من قبل أن يكتشف كل واحد من هؤلاء الثلاثة موهبته كانوا مجرد أناس عاديين، ولكن الحقيقة أنهم لم يكونوا أبدا عاديين، ولكن كل واحد منهم كان من البداية عنده هذا الشيء الذي ينتظر معجزة الكشف عنه وكل واحد منا فيه ذلك الشيء فيه تلك البئر التي تنتظر الكشف عنها والدق عليها لتنبثق في ينبوع من النعمة الإلهية لا ينضب إلا بالموت.
والسر في أن أغلب الناس عاديون، أن اكتشاف الإنسان لنفسه وتعرفه على كنوزه ومواهبه ليس شيئا هينا، وإنما هو اكتشاف أصعب من غزو الفضاء.
وقليلون هم الذين يستطيعون أن يقوموا بهذه الرحلة الشاقة إلى داخل نفوسهم. إنها رحلة أصعب من رحلة كولومبس وجاجارين.
إن رحلة كولومبس إلى أمريكا كانت رحلة لها خريطة وبوصلة، فيها معالم، وحدود، وبحر، وأفق، وأرض، وسماء.
ورحلة جاجارين كانت فيها مئات الأجهزة، والعدادات، والردارات، والموازين، والمكاييل، والمناظير.
أما رحلة الإنسان لاكتشاف نفسه فإنها خبطة عشواء في الفراغ، في أغوار نفس مظلمة ليس لها سقف، ولا قاع، ولا خريطة، ولا معالم.
ونحن مثل حجارة والولاعة الطريق إلى اكتشاف طبيعتنا لا يكون إلا بالتعامل، بالاحتكاك، بالاصطدام بالعالم في سلسة التجارب والخبرات.
بهذا وحده تنطلق شرارتنا وتنكشف ذخائرنا المكنوزة.
لنكتشف نفوسنا لابد من الخروج من نفوسنا، والارتماء في الواقع، والاحتكاك بالناس، والمجازفة، والمغامرة، والتعامل بالحب والكراهية، ومعاناة الألم والعذاب وخيبة الامل.
والمعرفة النظرية ضرورية، والمعرفة بالتاريخ وبالتطور وبالطبيعة الإنسانية وبالمجتمع؛ لأننا جزء من المجتمع، وجزء من تاريخ طويل، ونهاية مراحل متعاقبة من التطور. لسنا حلقات معلقة في الهواء، وإنما نحن بشر ننتسب إلى سلالة البشر، وننتمي لمجتمع ذي تاريخ.
العلم، والخبرة، والإحساس، والمعاناة، والتجربة، والجرأة على اقتحام المخاطر كلها أدوات ضرورية لهذه الرحلة التي نهبط فيها جوف ذلك البركان الذي اسمه (نفوسنا).
وأهم من جميع هذه الأدوات الإلهام، والبصيرة، والنور الداخلي الذي يدلنا على نفوسنا في لحطات الصفاء. ذلك النور الذي يشبه اليد الهادية التي تأخذ بيدنا وتهدينا إلى حقيقتنا.
البقية تأتي...

الخميس، 31 يوليو 2008

قصة نفس


فرغت لتوي من قراءة كتاب (قصة نفس) لزكي نجيب محمود، وكان أول ماجذبني للكتاب هو عنوان الفصل الأول منه (أحدب النفس)! وما أن وقعت عيني على الجملة الأولى منه (الحياة عبئها ثقيل على من أصابه في الحياة خذلان) حتى شعرت وكأن كاتب هذه الكلمات قد صرح بما انطوت عليه نفسي ولم أستطع أن أعبر عنه فضلا عن أن أصرح به.
هكذا مضت أيام عشت فيها مع الكاتب أسير خلف كلماته علني أعثر على سر حزنه واحدودب نفسه. عرفت أنه قد أوتي حظا من الموهبة التي لم تجد من أقرب الناس إليه من يقدرها حق قدرها. وكانت للأحدب هذا نفسا شديدة الحساسية، قوية العاطفة.
و(قصة نفس) يروي فيها صاحبها عن ثلاثة شخوص، وكأن كل واحد منهم قد جسد سمة من سمات النفس الإنسانية. جسد (رياض عطا) العاطفة الإنسانية الخالصة، و(إبراهيم الخولي) العقلانية البحة، و(فوزي) الرواي التوازن والاندماج في المجتمع. وقد أثار انتباهي في هذه السيرة أن السر وراء حزن الأحدب وإبراهيم الخولي هو ماذكرت سابقا موهبة لم تجد من يقدرها حق التقدير، فشبههم الراوي بالبحر المحيط الذي قد يخدع الناظر بسكونه ووداعته ولا يعرف ما خبئ في أعماقه من غضب كان هو القوة الدافعة له ليكمل مسيرة حياته.
كان كلا من الأحدب وإبراهيم الخولي شديد الانطوائية، ولكن الألم الذي كان يسكن نفسيهما كان هو القوة الدافعة المحركة لهما؛ ليثورا ويكتبا ويحققا بغيتهما، محاولين الثورة على السائد والمألوف.
وحين فرغت من الكتاب طفقت أسأل نفسي، وأوجه أسئلتي للكاتب تباعا -أيضًا-: ما الضير في ألم يكون وقودا لحياتنا، ويدفعنا لنحقق ما نصبو إليه؟ وما البأس في حزن يرهف إحساسنا ويملأ قلوبنا رحمة بهؤلاء المظلوين الذين امتلأ العالم بهم، فنتحرك في دأب وهمة محاولين دفع الظلم عنهم؟!